بالرغم من أن الإسلام يحسب عبادة المسيح غلواً في الدين ,فإن القرآن يضفي على المسيح صفات وكرامات تجعله فوق البشر.
وهذه الميزات تنبع من سيرته ,ومن رسالته ,ومن شخصيته الفائقة. وحين نقارن بين هذه الميزات التي ذكرها القرآن للرسل والأنبياء نرى أنه لم يُعط أحداً منهم ,حتى محمداً شيئاً من ميزات المسيح.
• الحبل والولادة العجيبان
جاء في القرآن : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِا لرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً – مريم 19 :16-23 –
• جاء في كتاب التفسير الكبير للإمام الرازي ,انه كان لمريم في منزل زوج أختها زكريا محراب على حدة تسكنه. وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها ,فتمنَّت على الله أن تجد خلوة في الجبل ,فانفرج السقف لها. فخرجت إلى المغارة فجلست في المشرفة وراء الجبل. ولما جلست في ذلك أرسل الله إليها الروح.
واختلف المفسرون في هذا الروح. فقال الأكثرون إنه جبريل عليه السلام. وقال أبو مسلم إنه الروح الذي تصور في بطنها بشراً. والأول أقرب ,لأن جبريل عليه السلام يُسمَّى روحاً ,وإنما تمثَّل لها في صورة إنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه.
لما علم جبريل خوفها ,قال لها : أنا رسول ربك ليزول عنها الخوف جئت لأهب لك غلاماً زكياً ,أي طاهراً. فتعجبت مما بشرها به لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل. فقالت أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر؟ فأجابها جبريل : كذلك قال ربك هو عليّ هين.
وقال القرآن : وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ – التحريم 66 :12 – .
قال الإمام الرازي : اختلفوا في النافخ فقال البعض : كان النفخ من الله تعالى ,لقوله : فنفخنا فيه من روحنا وظاهر أن النافخ هو الله تعالى. وقال آخرون هو جبريل عليه السلام, لأن الظاهر من قول جبريل لأهب لك .
ثم اختلفوا في كيفية ذلك النفخ على عدة أقوال :
– الأول – قول وهب إنه نفخ في جيبها حتى وصلت إلى الرحم.
– الثاني – في ذيلها فوصلت إلى الفرج.
– الثالث – قول السدي أخذ بكمها فنفخ في جنب درعها فدخلت النفخة صدرها فحملت. فجاءتها أختها امرأة زكريا تزورها فالتزمتها. فلما التزمتها علمت أنها حبلى وذكرت مريم حالها ,فقالت امرأة زكريا : إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك. فذلك قوله تعالى : مصدقاً بكلمة من الله .
– الرابع – ان النفخة كانت في فيها فوصلت إلى بطنها في الحال .
وقال : اختلفوا في مدة حملها على وجوه :
– الأول – قول ابن عباس إنها كانت تسعة أشهر ,كما في سائر النساء بدليل أن الله تعالى ذكر مدائحها في هذا الموضوع. فلو كانت عادتها في مدة حملها بخلاف النساء لكان ذلك أَوْلى بالذكر.
– الثاني – إنها كانت ثمانية أشهر ,ولم يعش مولود وُضع لثمانية أشهر إلا عيسى ابن مريم.
– الثالث – وهو قول عطاء وأبي العالية والضحاك ,سبعة أشهر.
– الرابع – انها كانت ستة أشهر.
– الخامس – ثلاث ساعات ,حملته في ساعة ,وصُوِّر في ساعة ,ووضعته في ساعة.
– السادس – وهو قول ابن عباس أيضاً ,كانت مدة الحمل ساعة واحدة.
ويمكن الاستدلال عليه من وجهين :
– الأول – قوله تعالى : فحملته فانتبذت به ,فأجاءها المخاض ,فناداها من تحتها والفاء للتعقيب ,فدلَّت هذه الفاءات على أن كل واحد من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل ,وذلك يوجب كون مدة الحمل ساعة واحدة.
– الثاني – ان الله تعالى قال في وصفه : إن مثَل عيسى عند الله كمثَل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فثبت ان عيسى كما قال الله تعالى له : كن فيكون هذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل ,وإنما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة – التفسير الكبير جزء 21 ص 197-202 – .
وعلق البيضاوي على ولادة المسيح المعجزية ,فقال : تلك ميزة تفرَّد بها المسيح على العالمين والمرسَلين. لأنه وُلد من دون أن تضمه الأصلاب والأرحام الطوامس .
وعلَّق الفخر الرازي على الموضوع بقوله :
– أ – لأهب لك غلاماً زكياً قال : الزكي يفيد أموراً ثلاثة :
– الأول – أنه الطاهر من الذنوب.
– الثاني – أنه ينمو على التزكية ,لأنه يُقال فيمن لا ذنب له زكي.
– الثالث – النزاهة والطهارة.
– ب – العبارة لنجعله آية للناس ورحمة أي لنجعل ولادته آية للناس ,إذ وُلد من غير ذكر. ورحمة منا ,أي يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات ,حتى تكون دلائل صدقه أبهر ,ويكون قبول قوله أقرب .
وعلق الإمام أبو جعفر الطبري على قوله : غلاماً زكياً فقال : الغلام الزكي هو الطاهر من الذنوب. وكذلك تقول العرب : غلام زاك وزكي وعال وعلي .
• كونه مباركاً
نقرأ في سورة مريم عن لسان المسيح : وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ – مريم 19 :31 – .
قال الإمام أبو جعفر الطبري عن يونس بن عبد الأعلى عن سفيان : أن تفسير جعلني مباركاً هو جعلني معلّماً للخير .
وقال السيوطي : وجعلني مباركاً أين ما كنت أي نفَّاعاً للناس .
• كونه مؤيداً بالروح القدوس
وَآتَيْنَا عِيسَى ا بْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ – البقرة 2 :87 و253 – .
قال ابن عباس : ان روح القدس ,هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى وقال أبو مسلم : ان روح القدس الذي أُيِّدَ به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى .
ونقرأ في النساء 4 :171 : إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِا للَّهِ وَرُسُلِهِ .
وخلاصة هذه الآيات أن الله أعطى عيسى في ذاته روحاً ,وأن هذا الروح يؤيّده في شخصيته.
• رفعته عند وفاته
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذِينَ كَفَرُوا – آل عمران 3 :55 – .
قال الإمام الرازي : لتفسير هذه الآية عدة وجوه منها : – الوجه الأول – المراد بالرفعة ,إني رافعك إلى محل كرامتي. وجعل ذلك رفعاً إليه للتضخيم والتعظيم. ومثلها قوله إني ذاهب إلى ربي – هذه العبارة مستعارة من الإنجيل – . – الوجه الثاني – في التأويل أن يكون قوله ورافعك إليَّ معناه أنه يرفعه إلى مكان لا يملك أحد الحكم عليه فيه. لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام ,أما في السموات فلا حاكم في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله .
• عصمته في رسالته كما في سيرته
يتوهم البعض أن العصمة في الرسالة تقترن حتماً بالعصمة في السيرة. ولكن نصوص القرآن تنقض هذا الوهم. إذ نقرأ في سوره الكثير من النصوص التي تفيد أن أنبياء أخطأوا ,قبل الرسالة وبعدها. أما المسيح في القرآن ,فسيرته معصومة كرسالته ,فقد شُهد له أنه زكي. قال الإمام البيضاوي في تفسير كلمة زكي : إن عيسى كان مترقياً من سن إلى سن .
• تفرد رسالته بالبينات
فكما انفردت رسالته عن الرسالات جميعاً بتأييد الروح القدس ,هكذا انفردت أيضاً بالبيّنات وباستجماعها ,كما لم تجتمع لغيره ,إذ نقرأ في البقرة 2 :253 : وقد آتينا عيسى البيّنات والبيّنات هي العجائب.
قال الإمام البيضاوي : لقد خصَّه الله بالتعيين وجعل معجزاته سبب تفضيله على الرسل ,لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره .
• تفرد المسيح في اليوم الأخر
يتفرد المسيح كما صوَّره القرآن في حمله وولادته وطفولته ومعجزاته وموته ورفعه على سائر الأنبياء والمرسلين. بل أن القرآن خصَّه بأخريات لم تُنسَب لنبي قط حتى قال القرآن فيه وإنه لَعِلْمٌ للساعة أي أن نزوله إلى الدنيا مرة أخرى نذير بقيام الساعة. يقول الجلالان : وإنه عيسى لعِلْمٌ للساعة تُعلم بنزوله . وقال البيضاوي : وانه لَعلمٌ للساعة لأن حدوثها ونزوله من أشراط الساعة. يُعلم به دُنوُّها. وقرئ لَعَلَمٌ وهو العلامة . وقال الزمخشري : وانه لعلم للساعة أي شرط من أشرطها تُعلم به .
كذلك نقرأ في كتب الصحاح المعتمدة أمثال البخاري ومسلم أبواباً خصَّصت عشرات الأحاديث الموصولة السند عن نزول المسيح ابن مريم ,وأعطته مكانة لم تُعْط لنبي من الأنبياء.
روي عن محمد : يكون المسيح في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً .
وروي عنه أيضاً : ليُدْركن المسيح ابن مريم رجالاً من أمتي مثلكم أو خيراً منكم .
وفي الحديث أيضاً : ينزل عيسى ابن مريم فيتزوج ويُولد له ولد ويمكث خمساً وأربعين سنة ويدفن معي في قبري ,فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر !!
وروي أيضاً في الحديث الصحيح : الأنبياء إخوة. أمهاتهم شتى ودينهم واحد. وأنا أوْلى الناس بعيسى ابن مريم ,لأنه لم يكن بيني وبينه نبي. فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ,كأن رأسه تقطر ولم يصبه بلل
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن.. لماذا خصَّ الإسلام المسيح بهذه المكانة التي ميَّزته عن سائر أنبياء القرآن؟