ما هي الحكمة التي يراها المسلمون في نزول المسيح في ذلك الوقت دون غيره من المرسلين أولي العزم؟!
أجاب على هذا السؤال الإمام القرطبي في كتابه التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة . يقول في ص 764 : يحتمل أن المسيح قد وجد في الإنجيل فضل أمة محمد – ص – ,فدعا الله عزَّ وجلّ أن يجعله من أمة محمد – ص – فاستجاب الله تعالى دعاءه ورفعه إلى السماء إلى أن ينزله آخر الزمان مجدداً لما درس من دين الإسلام ,فوافق خروج الدجال فقتله !!!
ويحتمل أن يكون إنزاله مدة لدنو أجله ,لا لقتال الدجّال لأنه لا ينبغي لمخلوق من التراب أن يموت في السماء لكن أمره يجري على ما قال الله تعالى : مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى – طه 20 :55 – فينزله الله تعالى ليقبره في الأرض مدة يراه فيها من يقرب منه ويسرع به من نأي عنه ,ثم يقبضه فيتولى المؤمنون أمره ويصلّون عليه ويُدفن حيث دُفن الأنبياء !!
ويحتمل أن يكون ذلك لأن اليهود همَّت بقتله وصلبه وجرى أمرهم معه على ما بيّنه الله تعالى في كتابه وهم أبداً يدَّعون أنهم قتلوه وينسبونه في السحر وغيره إلى ما كان الله يراه ونزَّهه منه. ولا يزالون في ضلالهم هذا حتى تقترب الساعة ,فيظهر الدجال وهو أسحر السحرة ويبايعه اليهود ,فيكونون يومئذ جنده ,معتقدين أنهم ينتقمون به من المسلمين. فإذا صار أمرهم إلى هذا أنزله الله الذي عندهم انهم قد قتلوه .
وهذه كلها احتمالات قدّمها الإمام القرطبي ,وهي رصيد جديد من الأقوال الظنية ,والاجتهادات الفردية التي لا سند لها سوى النصوص المبهمة من القرآن والسنّة التي تناولت حياة المسيح.
• المسيح الشفيع المقرب
حين نتأمل في الزُّمر 39 :44 ,نرى أن القرآن يحصر الشفاعة بالله وحده إذ يقول : لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً . ومع ذلك ,فإن أحد نصوص القرآن يلمح إلى كون الشفاعة أيضاً من امتيازات المسيح ,فيقول : إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ا سْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ – آل عمران 3 :45 – .
قال الجلالان في تفسير هذه الآية : وجيهاً في الدنيا بالنبوة ,وفي الآخرة بالشفاعة والدرجات العُلى ,ومن المقرَّبين عند الله .
وأخرج الإمام الطبري عن ابن حميد ,عن سلمة ,عن ابن اسحاق ,عن محمد بن جعفر ,قال : وجيهاً في الدنيا ,أي ذو وجاهة ومنزلة عند الله في الدنيا وفي الآخرة. و من المقربين يعني أنه ممن يقربه يوم القيامة ,فيُسكنه في جواره ويُدنيه منه .
وقال الإمام الرازي : وجيهاً في الدنيا بسبب أنه يُستجاب دعاؤه ,ويحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص. ووجيه في الآخرة انه يجعله شفيع أمته. أما قوله ومن المقربين ففيه وجوه :
– الأول – أنه تعالى جعل ذلك بالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم في هذه الصفة.
– الثاني – أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه سيُرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة
معجزات المسيح في القرآن
• الخَلْق
جاء في المائدة 5 :110 : إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي .
قال ابن العربي في تفسير هذه الآية : لقد خصّ الله عيسى بكونه روحاً وأضاف النفخ في خلقه من الطين. ولم يضف نفخاً في إعطاء الحياة لغير عيسى ,بل لنفسه تعالى .
• النطق عند الولادة
حين ولدت مريم ابنها تناولها قومها بالتأنيب ظناً بأنها حبلت به سفاحاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ) مريم 19 : 29 – 30 )
قال الإمام الرازي : إن زكريا أتى مريم عند مناظرة اليهود إياها ,فقال لعيسى : اِنطق بحجتك إن كنت أُمرت بها ,فقال عيسى : إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً .
• إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص
يقول القرآن بلسان المسيح : وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ – آل عمران 3 :49 – . ومن المعروف أن الأكمه هو من وُلد أعمى ,والبرص هو المرض الخطير المعروف ,والمرضان من الأدواء التي يتعذر شفاؤها على البشر.
قال وهب بن منبّه : بينما كان عيسى يلعب مع الصبيان إذ وثب غلام على صبي فوكزه برجله فقتله ,فألقاه بين يدي عيسى وهو ملطخ بالدم. فطلع الناس عليه ,فاتهموه به. فأخذوه وانطلقوا به إلى قاضي مصر. فقالوا هذا قتل. فسأله القاضي ,فقال عيسى : لا. لا أدري من قتله ,وما أنا بصاحبه. فأرادوا أن يبطشوا بعيسى ,فقال لهم : ائتوني بالغلام ,فقالوا ماذا تريد؟ قال أسأله من قتله؟ فقالوا : كيف يكلمك وهو ميت؟ فأخذوه وأتوا به إلى الغلام القتيل ,فأقبل عيسى على الدعاء فأحياه الله .
وعن الكلبي أنه قال : كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات ب : يا حي يا قيوم . وأحيا عاذر – يقصد لعازر – وكان صديقاً له. ودعا سام بن نوح من قبره ,فخرج حياً. ومر على ابن ميت لعجوز ,فدعا الله فنزل عن سريره ورجع إلى أهله وولد له .
• العِلم بالغيب
قال القرآن بلسان المسيح : وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ – آل عمران 3 : 43
روى السُّدي أن عيسى كان يلعب مع الصبيان ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم. وكان يخبر الصبي : أن أمك قد خبأت لك كذا. فيرجع الصبي إلى أهله يبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء. ثم قالوا لصبيانهم : لا تلعبوا مع هذا الساحر. وجمعوهم في بيت ,فجاء عيسى يطلبهم. فقالوا له : ليسوا في البيت. فقال : فمن في هذا البيت؟ قالوا : خنازير. قال عيسى : كذلك يكونون . فإذا هم خنازير.
• إنزال المائدة من السماء
جاء في المائدة 5 :112-114 : إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَاِئدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَّوَلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ .
لقد اختلف الأئمة في صفة نزول المائدة وكيفيتها وما كان عليها ,فروى قتادة عن جابر عن ياسر بن عمار عن محمد أنه قال : أُنزلت المائدة عليها خبز ولحم. وذلك أنهم سألوا عيسى طعاماً يأكلون منه ولا ينفد. فقال لهم إني فاعل ذلك ,وانها مقيمة لكم ما لم تخبئوا أو تخونوا. فإن فعلتم ذلك عُذِّبتم. فما مضى يومهم حتى خانوا وخبّأوا ,فرُفعت المائدة ومُسخوا قردة وخنازير .
وقال ابن عباس : قال عيسى لبني اسرائيل : صوموا ثلاثين يوماً ,ثم سَلُوا الله ما شئتم فيعطيكموه. فصاموا ثلاثين يوماً. فلما فرغوا قالوا : يا عيسى ,اننا صمنا فجُعنا ,فادْعُ الله أن ينزّل مائدة من السماء. فلبس عيسى المسوح وافترش الرماد ,ثم دعا الله فأقبلت الملائكة بمائدة ,يحملون عليها سبعة أرغفة وسبعة أحْوات ووضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم